قصص حقيقيّة


إدغار برمانا – مَدَّ لي طوق النجاة

حصيلة ذلك النهار 26 قتيلاً و65 جريحًا. هذه كانت أبرز عناوين الصحف في 6 نيسان من عام 1989. كانت زوجتي حاملاً في شهرها الأول وأنا من بين أولئك الجرحى، حيث انفجرت قذيفة في منزلنا بعد منتصف ليل 5 نيسان. جرى ذلك عندما كنا نهرع للنزول إلى الطابق السفلي لأنه أكثر أمانًا. توجهت نحو الباب لأفتحه فيما كانت زوجتي في غرفة النوم، وإذا بي أشعر بنور ساطع يلمع في البيت وزلزلة قوية تهز أساساته. أغمي على زوجتي وسقطت أنا أرضًا، فيما ساد صمت قطعته أصوات استغاثة من بين النار والدخان اللذين ملأا المنزل. هرع الجيران لنجدتنا، وبصعوبة كبيرة توصلوا إلى إخراج زوجتي من الغرفة التي انهار جدارها كليًّا، وهي مصابة بحروق في جسدها. أما أنا فكنت فاقد الوعي، تلتهم النيران الجائعة جسدي تحت وطأة الركام والحجارة المبعثرة. انتُشلت بصعوبة كبيرة، وأصوات الصواريخ والقنابل الممزوجة بصفارات سيارات الإسعاف تنبئ بالأعظم. نُقلنا أنا وزوجتي إلى أقرب مستشفى لكي نتلقى العلاج فيما كنت ما أزال فاقد الوعي. وبعد عدة ساعات في غرفة العمليات في ظروف أمنيّة صعبة بسبب كثافة القصف الذي بَلغَ المستشفى، خرج الأطباء ولسان حالهم: "لقد عملنا كلّ ما بوسعنا والأعمار بيد الله. حالته شديدة الخطورة."
كنت أعاني  نزيفًا حادًّا، وحروقًا في جزء كبير من جسمي. الشظايا كثيرة من رأسي إلى أخمص قدمي، كسور في الورك، فقدان للنظر وجزء من سمعي، ناهيكم بالعضلات التي تمزَّقت بفعل الضغط. هذا كلّه حتَّم إدخالي إلى العناية الفائقة وأنا معلَّق بين الحياة والموت. وكانت هذه بداية رحلة من العذاب والألم والدموع. خمسة عشر يومًا مضت وأنا على هذه الحالة ملقى على السرير لا أعلم نهاري من ليلي. ضمائدُ تلف رأسي وجسدي، أنابيب للتنفّس الاصطناعي وأجهزة طبيَّة متنوعة. أما زوجتي الحامل فقد غادرت المستشفى بعد تلقيها العلاج اللازم. أثناء وجودي في العناية الفائقة كان بجوار سريري بعض القسوس والإخوة يرفعون صلاة حارَّة إلى الله من أجلي. كما صلَّت الكنيسة بلجاجة من أجلي على الرغم من أن كلّ الدلائل تشير أني أقرب إلى الموت منِّي إلى الحياة. وبعد أيام بدأت تظهر استجابة الصلاة، فاستقرَّ وضعي الصحّي وابتدأت استعيد وعيي تدريجيًّا، ومعه بدأ الألم يلحُّ عليَّ بشدة. كانت حواسِّي كلها شبه مشلولة إلا أنفي الذي اشتممت من خلاله رائحة الحريق الذي أكل لحمي. لم أكن أعلم أين أنا، ولماذا أنا هناك، وماذا حلَّ بي، ولماذا لا أستطيع أن أرى... أين زوجتي، وهل أصيبت هي أيضًا، هل توفيت. أسئلة كثيرة كانت تدور في رأسي وتمزّقني. شعرت أن حالتي تشبه حالة أيوب... خسرت كلّ شيء بين ليلة وضحاها. تهدم جزء كبير من بيتنا، وما بقي منه التهمته النيران. مرّت عدَّة شهور وأنا قابع في فراشي والظلمة تحيط بي فيما أُخضِعت لسلسلة من العمليات الجراحية. عندما هدأ القصف أتت زوجتي لزيارتي برفقة أحد الأقارب. طلبتُ منهما إخراجي من المستشفى. ومع أنَّ طلبي كان شبه مستحيل، فقد نفِّذ بشرط أن يكون على مسوؤليتي الشخصية. لكن إلى أين وليس لي بيت يؤوينا أنا وزوجتي؟! وفيما كنا نغادر المستشفى في سيارة الصليب الأحمر تقدَّم صحفيّ أجنبيّ وأراد محادثتنا. وعندما علم بحالتي تحمَّس أكثر للمقابلة. سألني: ما هو شعوري عندما أصبح أبًا ولا يمكنني أن أرى طفلي؟ بعدما عبَّرت له عن شعوري المؤلم، قال لي: "سأحاول مساعدتك."
ولكوني قد اختبرت الرب يسوع مخلِّصًا شخصيًّا في حياتي، رفعت صوتي إليه وقلت له: "إن كان هذا الصحفي كغيره من الصحفيين الذين أجروا مقابلات معي ولم يفوا بوعود المساعدة، فأرجوك يا رب أن تبعده عني. فأنا ما عدت قادرًا أن أتعلّق بآمال وهميَّة." لكن سمح الرب أن تُبث المقابلة التي أجراها معي هذا الصحافي على إحدى المحطات البريطانية، حيث توالت من بعدها الاتصالات على المحطة ممَّن يعرضون المساعدة. تكفَّل أحد رجال الأعمال بدفع تكاليف نقلي بالطائرة من لبنان إلى بريطانيا. وتبرَّع طبيب من أشهر جرّاحي العيون مع فريق عمله، بإجراء عملية لعينيَّ من دون أي مقابل.
كما تيسَّرت لي قرنيَّتان من طريق وَهْبِ الأعضاء عندَ الوفاة، وتبرَّع آخرون بتذكرة سفر زوجتي وتكاليف الولادة. كذلك قدَّم الجيش اللبناني مروحية نقلتنا إلى قبرص، ومن هناك قصدنا بريطانيا لأنه كان يتعذَر الوصول إلى مطار بيروت. في بريطانيا عاد بصري بعد إجراء الجراحة، وهناك وُلد ابننا البكر. والحصيلة أنه أجريت لي حوالى 23 عمليَّة جراحيَّة منذ يوم إصابتي، وكان عمري 27 سنة. هذا كلّه وما برحت أرفع قلبي إلى مخلِّصي كي يمنحني أولاً قوَّة الغفران والمسامحة، ثم نعمة خاصة لكي أستطيع أن أتحمّل آلامي التي لا تطاق، ويهتم بالمستقبل الذي بدا ضبابيًّا. تلك المعاناة التي دامت 26 سنة ما كنا أنا وعائلتي لنستطيع تحمّلها لولا معيَّة الربِّ يسوع وسيره معنا في أحلك الظروف وأصعبها. فهو لا يردّ إنسانًا يأتي إليه بصدق وإخلاص. ربما تركت الحرب آثارها في جسدك وذاكرتك وضميرك وولَّعت بداخلك نار العداوة والحقد والكراهية وروح الانتقام. لكن من ساعدني في التغلُّب على روح الانتقام، ومشاعر المرارة، وإضمار الضغينة يمكن أن يساعدك أنت أيضًا. انظر إلى يسوع المصلوب وهو يغفر لصالبيه، سلِّمه أمرك وألقِ عليه كلّ همومك ومتاعبك، فعنده وحده الحل لكل إنسان يرتمي بين ذراعيه الأمينتين.
 

لقراءة المزيد اطلب الكتاب وال DVD المجّاني



هل تحتاج القوة المغيرة في حياتك؟